فصل: رابعاً: تطوير الإطار التنظيمي الإسلامي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: قراءة في فكر علماء الإستراتيجية (نسخة منقحة)



.ثالثا: وضوح الغاية:

إذ غاية هذه الأمة واضحة كل الوضوح، فقد جاءت في آيتين كريمتين.
يقول الله تعالى فيهما: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وصَّى بِهِ نُوحاً والَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ ومَا وصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}. [الشورى: 13].
قال تعالى: {الَذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}. [الحج: 41].
- فغاية المسلمين أينما كانوا، وفي أي زمان عاشوا هي إقامة شرع الله وأن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
وحتى نسير في اتجاه غايتنا فلابد أن تكون لدينا أهداف إستراتيجية يلتف حولها المسلمون ويعملون من أجل تحقيقها، وأن تكون الأهداف واضحة.
- إن أعداء الإسلام يعرفون- الإسلام- كما يعرفون أبناءهم، ولن نجنى من كثرة الاعتذار عن الإسلام ووصفه بما ليس فيه، والاستخفاء من الناس، إلا خزياً في الدنيا، وعذاباً أليماً في الآخرة... إلا أن يهدينا الله إلى سواء السبيل.
- وحتى تعم الفائدة نود أن نقترح بعض الأهداف التي نجدها مناسبة للنهوض بالأمة والسير بها في سبيل بلوغ غايتها:
أ- بناء الإنسان المسلم مادياً ومعنوياً وعقدياً، على أساس منهاج الإسلام ومنظومة قيمه العليا (*) كما وردت في كتاب الله وفصلته السنة النبوية الشريفة.
ب- الحفاظ على كيان الأسرة المسلمة، وعلى تماسكها وعلى هويتها، وتنمية دورها في التنشئة والتربية.
جـ- الارتقاء بالعلاقات الاجتماعية في مجتمعات المسلمين، على أساس التكافل الاجتماعي، والآمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
د- تطوير أساليب الدعوة الإسلامية بالحكمة والموعظة الحسنة، وتبليغها إلى كل من لم تبلغه في كل مكان في العالم باستخدام كل الوسائل التي يسرها الله تعالى للإنسان.
هـ- بذل الجهد لامتلاك القوة المادية والمعنوية، وبصفة خاصة بناء قاعدة تكنولوجية إسلامية خالصة.
و- تحقيق وحدة وتماسك الأمة الإسلامية، والحفاظ على كل أشكال العلاقات مع الأقليات الإسلامية، خارج مجتمعات المسلمين.
ز- الجهاد في سبيل الله، بالمال والنفس، دفاعاً عن العقيدة وحفاظاً على الأمة وتأميناً للدعوة.. فالجهاد ماض إلى يوم القيامة، وما تركه قوم إلا ضربهم الله بالذل (**).

.رابعاً: تطوير الإطار التنظيمي الإسلامي:

إن تغير الظروف الدولية بالشكل الذي وضحه علماء الإستراتيجية يتطلب من العالم الإسلامي إعادة النظر في ميثاق وأفرع وأجهزة منظمة المؤتمر الإسلامي.
ولعل أهم المقترحات في هذا الشأن ما يلي:
أ- تعديل الميثاق ليتضمن الأهداف سالفة الذكر (ص 178- 179) كما هي أو بعد التعديل المناسب لها، شريطة النص على تحقيق الوحدة الإسلامية على مراحل محددة بمدد زمنية... أفنحن أقل اهتماما بوحدتنا من الأوروبيين الذين يعملون على استعادة وحدة الإمبراطورية الرومانية؟
أو ليس الأجدر بنا أن نتبع قول الله تعالى: {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أمة واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}. [الأنبياء: 92]، {وإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أمة واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}. [المؤمنون: 52].
ب- إنشاء صندوق خاص بالإغاثة والدعوة يمول من حصيلة زكاة الركاز والمعادن وهى خمس ما يخرج من الأرض من كل أنواع المعادن: الذهب، الفضة، الحديد، الألومنيوم، البترول.... إلخ.
وما أكثرها في أمتنا بفضل الله، على أن تعطى أولوية خلال السنوات العشر القادمة للجمهوريات الإسلامية، في آسيا وأوروبا، التي كانت واقعة تحت الحكم الشيوعي، والبلدان الإفريقية والآسيوية الاكثر فقراً، وتلك التي تتعرض للكوارث الطبيعية وغيرها. ولتمويل عمليات استقبال واستيعاب وتشغيل هجرات إسلامية يتوقع وصولها من أوروبا خلال التسعينيات.
جـ- وضع فكرة محكمة العدل الإسلامية موضع التطبيق على أن تكون أحكامها ملزمة للأطراف التي تتحاكم إليها.
د- إنشاء قوة إسلامية (برية وبحرية وجوية) تغنينا عن استدعاء قوات أجنبية للمرابطة في أرض الإسلام، وتسهم في حفظ السلام بين الدول الإسلامية، وتكون نواة لتوحيد القوات المسلحة في بلادنا... بوصول المسلمين إلى مرحلة الوحدة السياسية بإذن الله.
هـ- إنشاء مركز إسلامي للبحوث والمعلومات وإدارة الأزمات، يجمع المعلومات ويحللها، ويقوم بالبحوث ذات الطبيعة الإستراتيجية في كل المجالات (سياسية/ اقتصادية/ عسكرية.... إلخ)، ويقوم بدراسات مستقبلية لتوقع الأزمات، ووضع البدائل أمام مؤتمر قمة الدول الإسلامية، فيسهل اتخاذ القرار الجماعي الإسلامي.
و- تنظيم اجتماعات سنوية لرؤساء الدول الإسلامية، وينعقد مجلسهم خلال 48 ساعة في حالات الأزمات التي تهدد الأمن الإسلامي، أو أمن أي مجتمع من المجتمعات الإسلامية في بلاد الإسلام أو خارجها.
ز- إنشاء وكالة إسلامية لتنظيم استقبال وتوطين واستيعاب وتشغيل أي هجرات إسلامية مفاجئة.

.خامساً: القيام بنهضة ثقافية شاملة:

تتناول التعليم، والإعلام، والبحث العلمي، والاجتهاد الجماعي، والتقريب بين المذاهب الفقهية، وتوحيد التشريعات في الأمور التي لا يوجد بها اختلاف بسبب الظروف الجغرافية.

.سادساً: وضع فكرة التكافل الاقتصادي الإسلامي:

(السوق الإسلامية المشتركة) موضع التنفيذ باعتبارها الأساس الصالح لإقامة وحدة الأمة، وتجميع وحسن استخدام ثرواتها وقوتها الاقتصادية، وسرعة بناء القاعدة التكنولوجية الإسلامية. وسوف يؤدى التأخير في إقامة هذه السوق إلى نقل كل مشكلات النظام الغربي إلى بلادنا، التي تكاد تتحول الآن إلى مجرد أسواق لمنتجاتهم.

.سابعاً: الحفاظ على مربع الأمن الإسلامي ودعمه:

يتركز أمن الأمة الإسلامية من الناحية الإستراتيجية في مربع التوازن الجيوستراتيجى الذي يحده (تركيا، وإيران، أفغانستان، باكستان، الصومال، السودان، مصر).
إن المساس بوحدة وتماسك أي دولة من الدول الواقعة بداخل هذا المربع سوف يعرض الأمن الإسلامي كله لخطر كبير.
إياكم وأن يتم تمزيق وحدة العراق أو الصومال.. حافظوا على وحدة أفغانستان والسودان.. حذار من التهديدات المحدقة بأمن مصر، وإيران وسوريا، وباكستان.
إن التواجد الأجنبي حول أو بداخل هذا المربع ليهدد أمن الأمة الإسلامية.

.ثامناً: اغتنموا الفرصة القادمة:

إن الانفجار في أوروبا سوف يحدث عما قريب، ولسوف ينشغل الغرب كله بنفسه، فهل ستضيع الفرصة أم أننا سنستعيد توازننا؟
أيها القارئ الكريم: إن الكسالى والقاعدين لا يستحقون نصر الله عز وجل، إلا إذا خطوا الخطوة الأولى باتجاه منازلة الباطل. قال تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}. [الرعد: 11].
أي أهل الحق دواماً مبتلون بأهل الباطل، وهذا لحكمة ربانية قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) ولَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ (3)}. [العنكبوت: 2، 3]. قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}. [آل عمران: 142].
وهذا يوجب على أهل الحق في مواجهة الباطل الصبر والثبات، وعدم الانزعاج، والرضا بالقضاء، والتوكل على الله، ومواصلة السير في طريق أصحاب الدعوات، لتربية إنسان العقيدة، عماد القاعدة الصلبة التي ستتحمل مسؤولية إقامة دين الله عز وجل (الإسلام) وإحياء الفرائض، وخاصة فريضة الجهاد، للتصدي للعدوان الواقع على أمة الإسلام، ودينها ومقدساتها، حتى يأمن الناس على دينهم وأعراضهم ودمائهم وأموالهم وديارهم ومقدساتهم، حتى تنتهي المظالم، حتى ينتهي العدوان الواقع على الإنسان، كل الإنسان، والدليل قوله تعالى: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ واصْبِرُوا إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ والْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. [الأعراف: 128]، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. [الأنفال: 40].
ويقول محمد صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، ويقول صلى الله عليه وسلم: إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله».
ويقول صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا».
ويقول سبحانه وتعالى: {وعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}. [المائدة: 23].
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ والصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}. [البقرة: 153].
ويقول سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}. [الحج: 78].
وفى أثناء هذا الصراع يجب على أهل الحق أن يكونوا على يقين أن النهاية للحق وأهله، والدمار على الباطل وأهله يقول رب العالمين: {إنَّ الَذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)}. [المجادلة: 20، 21].
قال تعالى: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ولَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)}. [غافر51، 52].
وتحقيق النصرة لا يستلزم أن يكون أهل الحق متفوقين عدداً أو عدة على أهل الباطل، ولكن مأمورين بالإعداد يقول الله عز وجل: {وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ومِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ}. [الأنفال: 60].
والذين ينتصرون في النهاية أهل الإيمان بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذين يُردّدون لا نقاتل عدونا بعدد ولا عدة إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به.
ويقول سبحانه: {ولَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. [آل عمران: 123].
ونصر المؤمنين والتمكين لهم في الأرض، سنة ربانية جارية وعدها الله المؤمنين:
قال تعالى: {وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ}. [النور: 55].
جـ- كما أن رسولنا بشرنا بفتح رومية، وقد فتحت القسطنطينية (إسلامبول) على يد محمد الفاتح بعد ثمانمائة سنة من البشارة النبوية، وستفتح رومية إن شاء الله كما بشرنا محمد صلى الله عليه وسلم: {ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى (4)}. [النجم: 3، 4].
د- ومن المبشرات أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها». (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث ثوبان مرفوعاً).
أيها القارئ الكريم، إن قراءة كتاب الله وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفحات التاريخ تؤكد حقيقة لا مراء فيها: أن العاقبة للمتقين والنصرة للحق وأهله، والخزي والدمار للباطل وأهله، هذه سنة ربانية لا جدال فيها قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}. [الأحزاب: 62]. {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ولَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}. [فاطر: 43].
ولهذا يجب ألا يرهبنا اجتماع أهل الباطل على أمتنا، لا يخفينا اجتماع الاستعمار العالمي والصهيونية والمنافقين، لا يخيفنا تحركات قوات حلف الأطلنطي، فكل هذا يجرى بقدر الله، وهم في قبضة الله يقول رب العالمين: {وإن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ}. [آل عمران: 111] وهذه ليست أول مرة يجتمع فيها أهل الكفر على أمة الإسلام.
لقد اجتمع علينا هؤلاء الأعداء أيام العثمانيين، فتصدى لهم العثمانيون وظلوا يجاهدونهم ستمائة سنة (699- 1299) هـ، واجتمعوا علينا في الحروب الصليبية والمغولية والتتارية (492- 692) هـ فتصدى لهم عماد الدين زنكي، ونورالدين محمود، وصلاح الدين، وسيف الدين عبد الله قطز، وبيبرس، ومحمد بن قلاوون- بل إن أبناء أوروبا ظلوا يحتلون ديارنا سبعمائة سنة، حتى حررها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم سنة (16 هـ).
إن الهجمة الأخيرة المعاصرة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة.
* هل تذكرون بدر الكبرى التي وقعت في السابع عشر من رمضان سنة ثنتين هجرية، حينما خرج المشركون باتجاه الدولة الإسلامية المدينة المنورة، وأعلن قائد جيشهم أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم بها وننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع العرب بمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبداً.
إن الهدف هو كسر شوكة الدولة الإسلامية الوليدة، وقبل المسلمون التحدي، وخرجوا وهم صائمون رغم قلة عددهم، وقلة عدتهم، خرجوا للقاء العدو بناء على أمر الله عز وجل حيث قال: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وإنَّ فَرِيقاً مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}. [الأنفال: 5] والهدف: يريد الله أن: {يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ويَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ}. [الأنفال: 7]. {لِيُحِقَّ الحَقَّ ويُبْطِلَ البَاطِلَ ولَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ}. [الأنفال: 8].
أي أن الباطل خرج يستفز الحق وأهله، مستعلياً بعدده وعدته، والهدف الرباني أن تنكسر شوكة الباطل على أيدي جند الحق، وينتصر الحق.
قال تعالى: {ولَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. [آل عمران: 123].
* هل تتذكرون غزوة الأحزاب التي وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة، حينما هاجم كفار العرب الدولة الإسلامية الوليدة، بعد تحالف كفار قريش وغطفان وكنانة وحلفائهم من أهل تهامة وبنو سليم، مع يهود بني النضير وبني قريظة في عشرة آلاف مقاتل ضد الأمة ورموا المدينة عن قوس واحدة.
وقد صور القرآن الكريم ذلك المشهد أصدق تصور: حيث قال تعالى: {إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ ومِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11)}. [الأحزاب 10، 11].
وكان الابتلاء صعباً، ولكن المسلمين قبلوا بالتحدي وخندقوا حول المدينة بناء على قرارات المجلس العسكري الاستشاري الأعلى بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند وصول قوات العدو وكان الصبر والثبات والدعاء: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، اللهم منزل الكتاب مجري السحاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم. ورغم قلة عددهم وعدة المسلمين، ورغم قسوة المناخ وقلة الطعام، كانت المعنويات مرتفعة، وكانت الدنيا تسمع أهازيج المسلمين وهم يحفرون الخندق:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لا قينا

إن الألى بغوا علينا

وإن أرادوا فتنة أبينا

اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة

فاغفر للأنصار والمهاجرة

وتجاوبت الحناجر بالنداء:
نحن الذين بايعوا محمدا

على الجهاد ما بقينا أبداً

وكانت البشارات والأمل في خضم المحنة والعدو يحاصر المسلمين تأتى كلمات القائد محمد صلى الله عليه وسلم لترفع معنويات المجاهدين، وهو يضرب بفأسه صخرة كانت تعترض الخندق الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر إلى صورها الحمراء الساعة، الله أكبر أعطيت فارس والله إني لأنظر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن.
في عز الأزمة والعدو يحاصر المدينة بهذا العدد الضخم من القوات، لا يفارق المسلمين، الأمل في أن الإسلام سينتصر، وستنهار دول الظلم والبغي، وستنهار دولة الفرس ودولة الروم، سينهار ملك كفار العرب، سينحسر سلطان بني يهود.
وفى أثناء هذا الابتلاء تميز الصف، فإذا بالمنافقين يكشفون عن مكنون قلوبهم قال تعالى: {مَّا وعَدَنَا اللَّهُ ورَسُولُهُ إلاَّ غُرُوراً}. [الأحزاب: 12].
ولكن المؤمنين الموحدين كان لهم موقف آخر:
قال تعالى: {ولَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وعَدَنَا اللَّهُ ورَسُولُهُ وصَدَقَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ومَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَاناً وتَسْلِيماً}. [الأحزاب: 22]، ومع الصبر والثبات والرضا بالقضاء والأخذ بالأسباب والإعداد والتوكل على الله، تنزل النصر من السماء:
يقول رب العالمين: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}. [الأحزاب: 9].
قال تعالى: {ورَدَّ اللَّهُ الَذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وكَانَ اللَّهُ قَوِياً عَزِيزاً}. [الأحزاب: 25].
قال تعالى: {وأَنزَلَ الَذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وتَأْسِرُونَ فَرِيقاً}. [الأحزاب: 26].
قال تعالى: {وأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ ودِيَارَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ وأَرْضاً لَّمْ تَطَئُووهَا وكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}. [الأحزاب: 27].
وكانت سورة الأحزاب منهجاً تربوياً لأصحاب العقيدة، وتخليداً لأخبار هذه القرون، وفضحه لموقف المنافقين، وتحالف الكافرين، وبيانه لحقيقة إنسان العقيدة، الذي يقول الله تعالى فيهم: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}. [الأحزاب: 23].
والنصر للحق وأهله له صورتان: النصر- التمكين لدين الله في الأرض- أو الشهادة يقول رب العالمين: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلاَّ إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ ونَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ}. [التوبة: 52].
ومن هنا كان أمر الله عز وجل لأهل الحق قال تعالى: {ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) ولِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا ويَمْحَقَ الكَافِرِينَ (141)}. [آل عمران: 139: 141].
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.